سورة الأنفال - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنفال)


        


النفل والنفل والنافلة في كلام العرب الزيادة على الواجب، وسميت الغنيمة نفلاً لأنها زيادة على القيام بالجهاد وحماية الدين والدعاء إلى الله عز وجل، ومه قول لبيد: [الرمل]
إنَّ تَقْوى ربِّنا خَيْرُ نَفَلْ ***
أي خير غنيمة، وقول عنترة:
إنَّا إذا احمرّ الوغى نروي القنا *** ونعفُّ عند مقاسم الأنفالِ
والسؤال في كلام العرب يجيء لاقتضاء معنى في نفس المسؤول، وقد يجيء لاقتضاء مال أو نحوه، والأكثر في هذه الآية أن السؤال إنما هو عن حكم الأنفال فهو من الضرب الأول، وقالت فرقة إنما سألوه الأنفال نفسها أن يعطيهم إياها، واحتجوا في ذلك بقراءة سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وعلي بن الحسين وأبي جعفر محمد بن علي وزيد بن علي وجعفر بن محمد وطلحة بن مصرف وعكرمة والضحاك وعطاء {يسألونك الأنفال}، وقالوا في قراءة من قرأ عن أنها بمعنى من، فهذا الضرب الثاني من السؤال واختلف الناس في المراد ب {الأنفال} في هذه الآية، فقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة وعطاء وابن زيد هي الغنائم مجملة، قالوا وذلك أن سبب الآية ما جرى يوم بدر وهو أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم افترقوا يوم بدر ثلاث فرق: فرقة أقامت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش الذي صنع له وحمته وآنسته، وفرقة أحاطت بعسكر العدو وأسلابهم لما انكشفوا، وفرقة اتبعوا العدو فقتلوا وأسروا.
وقال ابن عباس في كتاب الطبري: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرض الناس قبل ذلك فقال: من قتل قتيلاً أو أسر أسيراً فله كذا وله كذا، فسارع الشبان وبقي الشيوخ عند الرايات، فلما انجلت الحرب واجتمع الناس رأت كل فرقة الفضل لنفسها، وقالت نحن أولى بالمغنم، وساءت أخلاقهم في ذلك، فنزلت الآية بأن الغنائم لله وللرسول فكفوا، فقسمه حيئنذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على السواء، وأسند الطبري وغيره عن أبي أمامة الباهلي، قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال فينا أهل بدر نزلت حين اختلفنا وساءت أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسمه عليه السلام عن بواء.
قال القاضي أبو محمد: يريد عن سواء، فكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وصلاح ذات البين، مما جرى أيضاً يوم بدر فقيل إنه سبب ما أسنده الطبري عن سعد بن أبي وقاص، قال: لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاصي وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكثيفة فجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله: هذا السيف قد شفى الله به من المشركين فأعطنيه، فقال: ليس هذا لي ولا لك، فاطرحه في القبض فطرحته فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي، قال فما جاوزت إلا قريباً حتى نزلت عليه سورة الأنفال، فقال: اذهب فخذ سيفك فإنك سألتني السيف وليس لي، وإنه قد صار لي فهو لك.
قال القاضي أبو محمد: وفي بعض طرق هذا الحديث، قال سعد: فقلت لما قال لي ضعه في القبض أني أخاف أن تعطيه من لم يبل بلائي، قال: فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، خلفي، قال فقلت أخاف أن يكون نزلت فيّ شيء، فقال: إن السيف قد صار لي فأعطانيه ونزلت {يسألونك عن الأنفال} وأسند الطبري أيضاً عن أبي أسيد مالك بن ربيعة قال: أصبت سيف ابن عائد يوم بدر، وكان يسمى المزربان، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردوا ما في أيديهم من النفل أقبلت به، فألقيته في النفل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئاً يسأله، فرآه الأرقم المخزومي فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياه.
قال القاضي أبو محمد: فيجيء من مجموع هذه الآثار أن نفوس أهل بدر تنافرت ووقع فيها ما يقع في نفوس البشر من إرادة الأثرة، لا سيما من أبلى، فأنزل الله عز وجل الآية، فرضي المسلمون وسلموا، فأصلح الله ذات بينهم ورد عليه غنائمهم، وقال بعض أهل هذا التأويل عكرمة ومجاهد: كان هذا الحكم من الله لرفع الشغب، ثم نسخ بقوله {واعلموا أنما غنمتم من شيء} [الأنفال: 41] وقال ابن زيد: لم يقع في الآية نسخ، وإنما أخبر أن الغنائم لله من حيث هي ملكه ورزقه وللرسول من حيث هو مبين بها أحكام الله والصادع بها ليقع التسليم فيها من الناس، وحكم القسمة نازل خلال ذلك، ولا شك في أن الغنائم وغيرها والدنيا بأسرها هي لله وللرسول.
قال القاضي أبو محمد: وقال ابن عباس أيضاً {الأنفال} في الآية ما يعطيه الإمام لمن رآه من سيف أو فرس أو نحوه، وهذا أيضاً يحسن مع الآية ومع ما ذكرناه من آثار يوم بدر. وقال علي بن صالح بن جني والحسن فيما حكى المهدوي: {الأنفال} في الآية ما تجيء به السرايا خاصة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا القول بعيد عن الآية غير ملتئم مع الأسباب المذكورة، بل يجيء خارجاً عن يوم بدر، وقال مجاهد: {الأنفال} في الآية الخمس، قال المهاجرون: لم يخرج منا هذا الخمس، فقال الله تعالى هو لله وللرسول، وهذا أيضاً قول قليل التناسب مع الآية، وقال ابن عباس وعطاء أيضاً: {الأنفال} في الآية ماشد من أموال المشركين إلى المسلمين كالفرس والغاير والعبد الآبق هو للنبي صلى الله عليه سولم يصنع فيه ما شاء، وقال ابن عباس أيضاً: {الأنفال} في الآية ما أصيب من أموال المشركين بعد قسمة الغنيمة هو لله ورسوله.
قال القاضي أبو محمد: وهذان القولان لا تخرج بهما الآية عن الأسباب التي رويت في يوم بدر ولا تختص الآية بيوم بدر على هذا، وكأن هاتين المقالتين إنما هي فيما ناله الجيش دون قتال وبعد تمام الحرب وارتفاع الخوف، وأولى هذه الأقوال وأوضحها القول الأول الذي تظاهرت الروايات بأسبابه وناسبه الوقت الذي نزلت الآية فيه، وحكى النقاش عن الشعبي أنه قال: {الأنفال} الأسارى.
قال القاضي أبو محمد: وهذا إنما هو على جهة المثال فيعني كل ما يغنم، ويحسن في تفسير هذه الآية أن نذكر شيئاً من اختلاف العلماء في تنفيل الإمام لمن رآه من أهل النجدة والغناء وما يجوز من ذلك وما يمتنع وما لهم في السلب من الاختلاف، فقالت فرقة لا نفل بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الجمهور: النفل باق إلى يوم القيامة، ينفل إمام الجيش ما رآه لمن رآه لكن بحسب الاجتهاد والمصلحة للمسلمين ليحض الناس على النجدة وينشطهم إلى مكافحة العدو والاجتهاد في الحرب، ثم اختلفوا فقال ابن القاسم عن مالك في المدونة: إنما ينفل الإمام من الخمس لا من جملة الغنيمة، وينفل في أول المغنم وفي آخره بحسب اجتهاده، وقالت فرقة: إنما ينفل الإمام قبل القتال، وأما إذا جمعت الغنائم فلا نفل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا إنما يكون على هذا القول بأن يقول من قتل قتيلاً فله كذا وكذا، أو يقول لسرية إن وصلتم إلى موضع كذا فلكم كذا، وقال الشافعي وابن حنبل: لا نفل إلا بعد الغنيمة قبل التخميس، وقال إبراهيم النخعي: ينفل الإمام متى شاء قبل التخميس، وقال أنس بن مالك ورجاء بن حيوة ومكحول والقاسم وجماعة منهم الأوزاعي وأحمد وإسحاق وعدي بن عدي: لا نفل إلا بعد إخراج الخمس ثم ينفل الإمام من أربعة الأخماس ثم يقسم الباقي بين الناس: وقال ابن المسيب: إنما ينفل الإمام من خمس الخمس، وقال مالك رحمه الله لا يجوز أن يقول الأمير من هدم كذا من الحصن فله كذا ومن بلغ إلى كذا فله كذا، ولا أحب لأحد أن يسفك دماً على مثل هذا، قال سحنون: فإن نزل ذلك لزمه فإنه مبايعة.
وقال مالك رحمه الله: لا يجوز أن يقول الإمام لسرية: ما أخذتم فلكم ثلثه، قال سحنون: يريد ابتداء، فإن نزل مضى ولهم انصباؤهم في الباقي، وقال سحنون: إذا قال الإمام لسرية: ما أخذتم فلا خمس عليكم فيه، فهذا لا يجوز فإن نزل رددته لأن هذا حكم شاذ لا يجوز ولا يمضى، ويستحب على مذهب مالك إن نفل الإمام أن ينفل ما يظهر كالعمامة والفرس والسيف، وقد منع بعض العلماء أن ينفل الإمام ذهباً أو فضة أو لؤلؤاً أو نحو هذا، وقال بعضهم: النفل جائز من كل شيء، وأما السلب فقال مالك رحمه الله: الأسلاب من المغنم تقسم على جميع الجيش إلا أن يشرط الإمام وقاله غيره: وقال الليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وأبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر: السلب حق للقاتل بحكم النبي صلى الله عليه وسلم، قال الشافعي وأحمد وأبو عبيد وابن المنذر: السلب حق للقاتل بحكم النبي صيلى الله عليه وسلم، قال الشافعي وأحمد وأبو عبيد وابن المنذر: قاله الإمام أو لم يقله وقال مالك: إذ قال الإمام من قتل قتيلاً فله سلبه فذلك لازم، ولكنه على قدر اجتهاد الإمام وبسبب الأحوال والضيقات واستصراخ الأنجاد، وقال الشافعي وابن حنبل: تخرج الأسلاب من الغنيمة ثم تخمس بعد ذلك وتعطى الأسلاب للقتلة، وقال إسحاق بن راهويه: إن كان السلب يسيراً فهو للقاتل وإن كان كثيراً خمس، وفعله عمر بن الخطاب مع البراء بن مالك حين بارز المرزبان فقتله فكانت قيمة منطقته وسواريه ثلاثين ألفاً، فخمس ذلك، وروي في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم هو حديث عوف بن مالك في مصنف أبي داود، وقال مكحول: السلب مغنم وفيه الخمس، وروي نحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قال القاضي أبو محمد: يريد يخمس على القاتل وحده وقال جمهور الفقهاء لا يعطى القاتل السلب إلا أن يقيم البينة على قتله قال أكثرهم: ويجزئ شاهد واحد بحكم حديث أبي قتادة، وقال الأوزاعي يعطاه بمجرد دعواه.
قال القاصي أبو محمد: وهذا ضعيف، وقال الشافعي: لا يعطى القاتل إلا إذا كان قتيله مقبلاً مشيحاً مبارزاً، وأما من قتل منهزماً فلا، وقال أبو ثور وابن المنذر صاحب الأشراف: للقاتل السلب منهزماً كان القتيل أو غير منهزم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أصح لحديث سلمة بن الأكوع في اتباعه ربيئة الكفار في غزوة حنين وأخذه بخطام بعيره وقتله إياه وهو هارب فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه، وقال ابن حنبل: لا يكون السلب للقاتل إلا في المبارزة فقط، واختلفوا في السلب، فأما السلاح وكل ما يحتاج للقتال فلا أحفظ فيه خلافاً أنه من السلب، وفرسه إن قاتل عليه وصرع عنه، وقال أحمد بن حنبل في الفرس: ليس من السلب، وكذلك إن كان في هميانه أو منطقته دناينر أو جوهر أو نحو هذا مما يعده فلا أحفظ خلافاً أنه ليس من السلب واختلف فيما يتزين به للحرب ويهول فيها كالتاج والسوارين والأقراط والمناطق المثقلة بالذهب والأحجار فقال الأوزاعي ذلك كله من السلب، وقالت: فرقة: ليس من السلب، وهذا مروي عن سحنون رحمه الله إلا المنطقة فإنها عنده من السلب، قال ابن حبيب في الواضحة: والسوارين من السلب، ويرجح الشافعي هل هذه كلها من السلب أو لا؟
قال القاضي أبو محمد: وإذا قال الإمام: من قتل قتيلاً فله سلبه فقتل ذمي قتيلاً فالمشهور أن لا شيء له وعلى قول أشهب يرضخ أهل الذمة من الغنيمة يلزم أن يعطى السلب، وإن قتل الإمام بيده بعد هذه المقالة قتيلاً فله سلبه.
قال القاضي أبو محمد: وأما الصفي فكان خالصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله عز وجل: {فاتقوا الله} معناها في الكلام، اجعل بينك وبين المحذور وقاية، وقوله {وأصلحوا ذات بينكم} تصريح بأنه شجر بينهم اختلاف ومالت النفوس إلى التشاح، و{ذات} في هذا الموضع يراد بها نفس الشيء وحقيقته، والذي يفهم من {بينكم} هو معنى يعم جميع الوصل والالتحامات والمودات وذات ذلك هي المأمور بإصلاحها أي نفسه وعينه، فحض الله عز وجل على إصلاح تلك الأجزاء فإذا صلحت تلك حصل إصلاح ما يعمها وهو البين الذي لهم، وقد تستعمل لفظة الذات على أنها لزيمة ما تضاف إليه وإن لم تكن عينه ونفسه، وذلك في قوله: {عليم بذات الصدور} [الأنفال: 43] و{ذات الشوكة} [الأنفال: 7] فإنها هاهنا مؤنثة قولهم: الذئب مغبوط بذي بطنه، وقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه إنما هو ذو بطن بنت خارجة، ويحتمل ذات البين أن تكون هذه، وقد تقال الذات أيضاً بمعنى آخر وإن كان يقرب من هذا، وهو قولهم فعلت كذا ذات يوم، ومنه قول الشاعر: [البسيط]
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة *** ذات العشاء ولا تسري أفاعيها
وذكر الطبري عن بعضهم أنه قال: {ذات بينكم} الحال التي لبينكم كما ذات العشاء الساعة التي فيها العشاء.
قال القاضي أبو محمد: ورجحه الطبري وهو قول بين الانتقاض، وقال الزجاج البين هاهنا الوصل، ومثله قوله عز وجل: {لقد تقطع بينكم} [الأنعام: 94].
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا كله نظر، وقوله {وأطيعوا الله ورسوله} لفظ عام وسببه الأمر بالوقوف عندما ينفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغنائم، وقوله: {إن كنتم مؤمنين} أي كاملي الإيمان كما تقول لرجل إن كنت رجلاً فافعل كذا أي إن كنت كامل الرجولة وجواب الشرط في قوله المتقدم {وأطيعوا} هذا عند سيبويه، ومذهب أبي العباس أن الجواب محذوف متأخر يدل عليه المتقدم تقديره إن كنتم مؤمنين أطيعوا، ومذهبه في هذا أن لا يتقدم الجواب الشرط.


{إنما} لفظ لا تفارقه المبالغة والتأكيد حيث وقع، ويصلح مع ذلك للحصر، فإذا دخل في قصة وساعد معناها على الانحصار صح ذلك وترتب كقوله {إنما إلهكم اله واحد} [الأنبياء: 108، فصلت: 6] وغير ذلك من الأمثلة، وإذا كانت القصة لا تتأتى للانحصار بقيت إنما للمبالغة والتأكيد فقط، كقوله عليه السلام «إنما الربا في النسيئة»، وكقوله «إنما الشجاع عنترة» وأما من قال إنما، هي لبيان الموصوف فهي عبارة فاترة إذ بيان الموصوف يكون في مجرد الإخبار دون إنما، وقوله هاهنا {إنما المؤمنون} ظاهرها أنها للمبالغة والتأكيد فقط أي الكاملون، {وجلت} معناه فزعت ورقت وخافت وبهذه المعاني فسرت العلماء، وقرأ ابن مسعود {فرقت}، وقرأ أبي بن كعب {فزعت}، يقال وجل يؤجل وياجل وييجل وهي شاذة وييجل بكسر الياء الأولى ووجه هذه أنهم لما أبدلوا الواو ياء لم يكن لذلك وجه قياس، فكسروا الياء الأولى ليجيء بدل الواو ياء لعلة، حكى هذه اللغات الأربع سيبويه رحمه الله، و{تليت} معناه سردت وقرئت، والآيات هنا القرآن المتلو، وزيادة الإيمان على وجوه كلها خارج عن نفس التصديق، منها أن المؤمن إذا كان لم يسمع حكماً من أحكام الله في القرآن فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعه فآمن به، زاد إيماناً إلى سائر ما قد آمن به، إذ لكل حكم تصديق خاص، وهذا يترتب فيمن بلغه ما لم يكن عنده من الشرع إلى يوم القيامة، وتترتب زيادة الإيمان بزيادة الدلائل، ولهذا قال مالك الإيمان يزيد ولا ينقص وتترتب بزيادة الأعمال البرة على قول من يرى لفظة الإيمان واقعة على التصديق والطاعات.
وهؤلاء يقولون يزيد وينقص، وقوله {وعلى ربهم يتوكلون} عبارة جامعة لمصالح الدنيا والآخرة إذا اعتبرت وعمل بحسبها في أن يمتثل الإنسان ما أمر به ويبلغ في ذلك أقصى جهده دون عجز، وينتظر بعد ما تكفل له به من نصر أو رزق أو غيره، وهذه أوصاف جميلة وصف الله بها فضلاء المؤمنين فجعلها غاية للأمة يستبق إليها الأفاضل، ثم أتبع ذلك وعدهم ووسمهم بإقامة الصلاة ومدحهم بها حضاً على ذلك، وقوله {ومما رزقناهم ينفقون} قال جماعة من المفسرين: هي الزكاة.
قال القاضي أبو محمد: وإنما حملهم على ذلك اقتران الكلام بإقامة الصلاة وإلا فهو لفظ عام في الزكاة ونوافل الخير وصلاة المستحقين، ولفظ ابن عباس في هذا المعنى محتمل، وقوله {أولئك هم المؤمنين حقاً} يريد كل المؤمنين، و{حقاً} مصدر مؤكد كذا نص عليه سيبويه، وهو المصدر غير المتنقل، والعامل فيه أحق ذلك حقاً، وقوله {درجات} ظاهره، وهو قول الجمهور، أن المراد مراتب الجنة ومنازلها ودرجتها على قدر أعمالهم، وحكى الطبري عن مجاهد أنها درجات أعمال الدنيا، وقوله {ورزق كريم} يريد به مآكل الجنة ومشاربها، و{كريم} صفة تقتضي رفع المذام كقولك ثوب كريم وحسب كريم.


اختلف الناس في الشيء الذي تتعلق به الكاف من قوله {كما} حسبما نبين من الأقوال التي أنا ذاكرها بعد بحول الله، والذي يلتئم به المعنى ويحسن سرد الألفاظ قولان، وأنا أبدأ بهما، قال الفراء: التقدير امض لأمرك في الغنائم ونفل من شئت وإن كرهوا كما أخرجك ربك، هذا نص قوله في هداية مكي رحمه الله، والعبارة بقوله: امض لأمرك ونفل من شئت غير محررة، وتحرير هذا المعنى عندي أن يقال إن هذه الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال، كأنهم سألوا عن النفل وتشاجروا فأخرج الله ذلك عنهم، فكانت فيه الخيرة كما كرهوا في هذه القصة انبعاث النبي صلى الله عليه وسلم فأخرجه الله من بيته فكانت في ذلك الخيرة، فتشاجرهم في النفل بمثابة كراهيتهم هاهنا للخروج، وحكم الله في النفل بأنه لله وللرسول دونهم هو بمثابة إخراجه نبيه صلى الله عليه وسلم من بيته، ثم كانت الخيرة في القصتين فيما صنع الله، وعلى هذا التأويل يمكن أن يكون قوله {يجادلونك} كلاماً مستأنفاً يراد به الكفار، أي يجادلونك في شريعة الإسلام من بعد ما تبين الحق فيها كأنما يساقون إلى الموت في الدعاء إلى الإيمان.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الذي ذكرت من أن {يجادلونك} في الكفار منصوص والقول الثاني قال مجاهد والكسائي وغيرهما: المعنى في هذه الآية كما أخرجك ربك من بيتك على كراهية من فريق منهم كذلك يجادلونك في قتال كفار مكة ويودون غير ذات الشوكة من بعد ما تبين لهم أنك إنما تفعل ما أمرت به لا ما يريدون هم.
قال القاضي أبو محمد: والتقدير على هذا التأويل يجادلونك في الحق مجادلة ككراهتهم إخراج ربك إياك من بيتك، فالمجادلة على هذا التأويل بمثابة الكراهية وكذلك وقع التشبيه في المعنى، وقائل هذه المقالة يقول إن المجادلين هم المؤمنون، وقائل المقالة الأولى يقول إن المجادلين هم المشركون، فهذان قولان مطردان يتم بهما المعنى ويحسن رصف اللفظ وقال الأخفش: الكاف نعت ل {حقاً} [الأنفال: 4]، والتقدير هم المؤمنون حقاً كما أخرجك.
قال القاضي أبو محمد: والمعنى على هذا التأويل كما تراه لا يتناسق وقيل الكاف في موضع رفع والتقدير: كما أخرجك ربك فاتقوا الله كأنه ابتداء وخبر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا المعنى وضعه هذا المفسر وليس من ألفاظ الآية في ورد ولا صدر، وقال أبو عبيدة: هو قسم أي لهم درجات ومغفرة ورزق كريم كما أخرجك بتقدير والذي أخرجك، فالكاف في معنى الواو وما بمعنى الذي، وقال الزجّاج: الكاف في موضع نصب والتقدير الأنفال ثابتة لك ثباتاً كما أخرجك ربك، وقيل: الكاف في موضع التقدير لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم هذا وعد حق كما أخرجك، وقيل المعنى: وأصحلوا ذات بينكم ذلك خير لكم كما أخرجك، والكاف نعت لخبر ابتداء محذوف، وقيل التقدير: قل الأنفال لله والرسول كما أخرجك، وهذا نحو أول قول ذكرته، وقال عكرمة: التقدير وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين كما أخرجك ربك أي الطاعة خير لكم كما كان إخراجك خيراً لكم، وقوله {من بيتك} يريد من المدينة يثرب، قاله جمهور المفسرين وقال ابن بكير: المعنى كما أخرجك من مكة وقت الهجرة، وقرأ عبد الله بن مسعود: {في الحق بعدما بُين} بضم الباء من غير تاء، والضمير في قوله {يجادلونك} قيل: هو للؤمنين وقيل: للمشركين، فمن قال للمؤمنين جعل {الحق} قتال مشركي قريش، ومن قال للمشركين جعل {الحق} شريعة الإسلام، وقوله {إلى الموت} أي في سوقهم على أن المجادلين المؤمنون في دعائهم إلى الشرع على أنهم المشركون، وقوله {وهم ينظرون} حال تزيد في فزع السوق وتقتضي شدة حاله.
وقوله تعالى: {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم} الآية، في هذه الآية قصص حسن أنا اختصره إذ هو مستوعب في كتاب سيرَة رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن هشام، واختصاره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه وقيل أوحي إليه أن أبا سفيان بن حرب قد أقبل من الشام بالعير التي فيها تجارة قريش وأموالها، قال لأصحابه إن عير قريش قد عنت لكم فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها، قال فانبعث من معه من خف، وثقل قوم وكرهوا الخروج وأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلوي على من تعذر ولا ينتظر من غاب ظهره، فسار في ثلاثمائة وثلاثة عشر من أصحابه بين مهاجري وأنصاري، وقد ظن الناس بأجمعهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلقى حرباً فلم يكثر استعدادهم، وكان أبو سفيان في خلال ذلك يستقصي ويحذر، فلما بلغه خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة يستفز أهلها، ففعل ضمضم، فخرج أهل مكة في ألف رجل أو نحو ذلك، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خروجهم، أوحى الله إليه وحياً غير متلو يعده إحدى الطائفتين، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك، فسروا وودوا أن تكون لهم العير التي لا قتال معها، فلما علم أبو سفيان بقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ طريق الساحل وأبعد وفات ولم يبق إلا لقاء أهل مكة، وأشار بعض الكفار على بعض بالانصراف وقالوا عيرنا قد نجب فلننصرف، فحرش أبو جهل ولج حتى كان أمر الوقعة، وقال بعض المؤمنين: نحن لم نخرج لقتال ولم نستعد له، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وهو بواد يسمى ذفران، وقال أشيروا علي أيها الناس، فقام أبو بكر فتكلم فأحسن وحرض على لقاء العدو، فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستشارة فقام عمر بمثل ذلك، فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستشارة فتكلم المقداد الكندي فقال: لا نقول لك يا رسول الله اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن نقول إنا معكما مقاتلون.
والله لو أردت بنا برك الغماد.
قال القاضي أبو محمد: وهي مدنية الحبشة لقاتلنا معك من دونها، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلامه ودعا له بخير، ثم قال أشيروا علي أيها الناس فكلمه سعد بن معاذ وقيل سعد بن عبادة.
قال القاضي أبو محمد: ويمكن أنهما جميعاً تكلما في ذلك اليوم، فقال يا رسول الله كأنك تريدنا معشر الأنصار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجل، فقال إنا آمنا بك واتبعناك فامض لأمر الله، فوالله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: امضوا على بركة الله فكأني أنظر إلى مصارع القوم، فالتقوا وكانت وقعة بدر، وقرأ مسلمة بن محارب {وإذ يعدْكم} بجزم الدال، قال أبو الفتح ذلك لتوالي الحركات، وقرأ ابن محيصن {وإذا يعدكم الله احدى الطائفتين} بوصل الألف من {إحدى} وصلة الهاء بالحاء، و{الشوكة} عبارة عن السلاح والحدة، ومنه قول الأعور: [الرجز]
إن العرفج قد أدبى *** وقرأ أبو عمرو فيما حكى أبو حاتم {الشوكة تكون} بإدغام التاء في التاء، ومعنى الآية وتودون العير وتأبون قتال الكفار، وقوله {ويريد الله} الآية، المعنى ويريد الله أن يظهر الإسلام ويعلي دعوة الشرع، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بخلاف عنهم {بكلمته} على الإفراد الذي يراد به الجمع، والمعنى في قوله {بكلماته} إما أن يريد بأوامره وأمره للملائكة والنصر لجميع ما يظهر الإسلام أن يكون، وإما أن يريد بكلماته التي سبقت في الأزل والمعنى قريب، والدابر الذي يدبر القوم أي يأتي في آخرهم، فإذا قطع فقد أتى على آخرهم بشرط أن يبدأ الإهلاك من أولهم، وهي عبارة في كل من أتى الهلاك عليه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8